البديل
تصوم فتترك المباحات فما بالك بالمحرمات؟
جعل الله الصيام ركناً مهماً من أركان الإسلام الخمسة، وهو عبادة عظيمة لها أثرها في تربية العقول والأرواح وتهذيب النفس وحملها على الأخلاق الكريمة، وهو كفارة لما تقدم من الذنوب والآثام: “من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”، وفي شهر رمضان تتضاعف أجور الأعمال الصالحة فضلا من الله عز وجل على عباده، والأصل أن الصائم يترك المباحات في غير رمضان، من الأكل والشرب والجماع، ويقبل فيه المرء على ربه مفرغاً قلبه لله من كل الشهوات المباحة، يستعيد فيه الصائم صفاء روحه، في موسم من العبادات المتنوعة من صيام وقيام وتلاوة قرآن وصدقة وإحسان وذكر ودعاء واستغفار وسؤال الجنة والنجاة من النار، والموفق من حفظ أوقاته في نهار رمضان وليله، وشغلها فيما يسعده ويقربه إلى ربه.
والصيام بهذه النظرة ليس مجرد امتناع عن الأكل والشرب والجماع في نهار رمضان، والذين يفعلون ذلك يجعلون الصيام بلا مضمون حقيقي ويحولونه إلى حالة من الجوع والعطش ما يفتأ الإنسان أن يروي ظمأه منها فور انتهاء مدة الصوم، وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه”، لا حاجة لله في أن يجوع العبد، ولا حاجة له سبحانه في أن يمسك الممسكون عن الطعام والشراب، وما حاجة الله إلى جوع العبد وعطشه إن لم يكن ثمرة ذلك كله التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
وللصيام مفطرات ومفسدات حسية توجب القضاء، ومنها ما يوجب القضاء والكفارة، كالأكل، والشرب، والجماع، ومنها مفطرات ومفسدات معنوية لا توجب قضاء ولا كفارة، ولكنها تحول دون قبول الصوم، وتبطل أجره أو تنقصه، وهي المعاصي والآثام، واقرأ إن شئت قوله صلى الله عليه وسلم: “كم من صائم ليس له حظ من صومه إلا الجوع والعطش، وكم من قائم ليس له حظ من قيامه إلا السهر والتعب”.
البعض منا يصوم عن المفطرات الحسية كالأكل والشرب والجماع ولا يلتفت إلى المفطرات المعنوية كالغيبة والنميمة والكذب واللعن والسباب وإطلاق النظر إلى النساء في الشوارع والمحلات التجارية، و”رُبَ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب”، وقيل لابن عمر رضي الله عنهما في موسم من المواسم: الحاج كثير، فقال ابن عمر: “الركب كثير، والحاج قليل”، وللأسف فإننا نجد الكثيرين يمسكون في رمضان عن الطعام والشراب ولكن الصائمين قليل.
والمفسدات المبطلات التي تحول دون قبول الصوم وتذهب بأجره كله أو بعضه كثيرة جداً، وذلك لأن النهي عن قول الزور فيه إشارة إلى النهي عن جميع الكبائر والآثام، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه”.
وعلى المسلم أن يضبط نفسه ويحفظ لسانه من السب والشتم والغيبة والنميمة ونحو ذلك مما حرم الله في الصيام وغيره، وفي الصيام أشد وآكد محافظة على كمال صيامه، وبعداً عما يؤذي الناس، ويكون سبباً في الفتنة والبغضاء والفرقة، لقوله صلى الله عليه وسلم: “فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم”.
وأنت حين تترك المباحات طاعة لله فلا عجب في أن تؤمر قبل ذلك بترك المحرمات، ويعتقد البعض منا أن شهر رمضان فرصة للنوم والكسل في النهار، والسهر في الليل، وفي الغالب يكون هذا السهر على ما يغضب الله عز وجل من اللهو واللعب والغفلة والقيل والقال والغيبة والنميمة، وعلى الإجمال فيما لا تحمد عقباه من الملاهي والملاعب والتجول في الشوارع والجلوس على الأرصفة ثم يتسحرون بعد نصف الليل وينامون عن أداء صلاة الفجر في وقتها مع الجماعة!
ولا شك في أن أهون الصيام ترك الطعام والشراب والجماع، مع الانغماس فيما سوى ذلك من المحرمات، ولهذا شبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم الصوم بالجُنَّة، فالصوم الحقيقي يمنع من قبيح الأقوال والأفعال، كما تمنع الجُنة المقاتل من سهام الأعداء، فقال: “الصيام جُنَّة، فلا يرفث ولا يفسق، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين” الحديث، وقال جابر رضي الله عنه: “إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء”.
أخرج الإمام أحمد في مسنده: أن امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكادتا أن تموتا من العطش، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض، ثم ذكرتا له، فدعاهما فأمرهما أن يتقيئا، فقاءتا ملء قدح قيحاً، ودماً صديداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا تأكلان لحوم الناس” الحديث، وهذا بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه).
ومثل من تقرب إلى الله بترك المباحات في غير رمضان وانغمس فيما حرم الله عليه في طول الأعوام، نحو الكذب والغيبة والنميمة وظلم الناس، وأكل المال الحرام، ومداهنة الحكام، وقول الزور، كمثل من ترك الفرائض وتقرب إلى الله بالنوافل، فإن تقربه هذا مردود عليه، وليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، وليس له حاجة في أن يترك المرء المباحات وهو حريص على إتيان المحرمات!
The post تصوم فتترك المباحات فما بالك بالمحرمات؟ appeared first on البديل.
ليست هناك تعليقات