البديل
قراءة في كتاب: العالم عام 2050 لجلال أمين
في كتاب ” العالم عام 2050″ الصادر حديثًا عن دار الكرمة، يُحاول الدكتور جلال أمين استشراف ما يمكن أن يكون عليه العالم في منتصف القرن الواحد والعشرين، طارحًا العديد من الأسئلة حول مدى قدرة منظومة العولمة والرأسمالية والديمقراطية بصورتها الحالية على الاستمرار في العقود القادمة، وفي حالة عجزها ما هى البدائل، وكيف ستُؤثر هذه البدائل على نمط حياة البشر.
يحتوي الكتاب على ثمانية فصول تشتبك مع الأوضاع والتحديات التي تواجهها مصر والدول العربية، وتناقش عدة قضايا ومفاهيم اقتصادية واجتماعية كالعدالة الاجتماعية والحرية والثروة والتخطيط والإيديولوجيا.
يعتمد الكاتب في استشرافه للمستقبل على تأمل حركة التاريخ، وفي هذا السياق يقول: “إذا كانت بيدك كرة، وأردت أن ترمي بها إلى الأمام، كان عليك أن ترجع للخلف. وكلما أردت للكرة أن تذهب أبعد فأبعد إلى الأمام كان عليك أن ترجع يدك أكثر فأكثر إلى الخلف، كذلك إذا أردت أن تتكهن بالمستقبل عليك أن تتأمل ما كان عليه الماضي، وكلما أردت أن تذهب أبعد فأبعد في التكهن بالمستقبل، كان عليك أن ترجع في الماضي إلى الأبعد فالأبعد “.
يُدرك جلال أمين مدى صعوبة نجاح فرضيته؛ فحركة التاريخ ليست خطية ولا تحكمها قوانين ثابتة ومطلقة، وبالتالي قد لا يمنحنا تأمل التاريخ وحده القدرة الكافية على إدراك صورة المستقبل، وفي السياق ذاته يضيف: “إني أدرك ما يكتنف أي محاولة للتنبؤ بالمستقبل أو تخمينه من مصاعب وعقبات ولكن المحاولة ذاتها، حتى ولو باءت بالفشل من حيث تحقق ما إنتهت إليه من توقعات، قد تكون مفيدة للغاية من حيث تنشي الفكر، وتقليب بعض الأمور المهمة على وجوهها المختلفة وإثارة أسئلة من المفيد إثارتها والتفكير فيها، مؤكدًا على أنه لا يمكن أن تجرى أي محاولة جادة للتنبؤ بالمستقبل دون القيام بتحليل الحاضر، وبعض الماضي أيضًا”.
صورة قاتمة
يُشير جلال أمين في تحليله لمستقبل مصر في العقود القادمة إلى أن قوة مصر خلال القرنين الماضيين كانت تعتمد على ثلاثة محاور، وهى: أهميتها الجغرافية والزراعية والثقافية، ومع تطور وسائل المواصلات على المستوى العالمي وسرعة الانتقال من دولة لأخرى تلاشت هذه الأهمية، وبالنسبة للأهمية الزراعية فقد تلاشت أيضًا مع تخلي العالم وتجاوزه الاحتياج لمحصول القطن، فضلًا عن إهمال المشروعات الزراعية في مصر، وتراجع قيمة الزراعة لصالح التصنيع والتكنولوجيا، أما الدور الثقافي، فتلاشى أيضًا لصالح الدول الخليجية بعد ما أحدثه البترول من طفرة وفائض مادي كبير، وأصبح يُعاد تدويره في آلة إعلامية وثقافية ضخمة ومتطورة، بينما تُعاني المؤسسات الإعلامية والثقافية المصرية من ترهل وعجز بصورة كبيرة، وتبدو كأنها خارج التاريخ وفي طريقها للانقراض.
هذه الصورة القاتمة لا تقتصر فقط على تلاشي قوة ونفوذ مصر بل تمتد لأزمات أساسية تتعلق بقدرة الدولة على توفير الاحتياجات الأساسية للناس، ففي ظل سياسات النيوليبرالية الجديدة وسيادة الثقافة الاستهلاكية وخصخصة كافة القطاعات، والاعتماد على الاقتراض من الخارج والتفاوت الطبقي الشاسع، يُصبح الحديث عن المستقبل في مصر محاصر بأسئلة تتعلق بمعدل البطالة والزيادة السكانية وتوزيع الدخل ووزن مصر الإقليمي ” كانت مصر في منتصف القرن الماضي أعلى الدول العربية دخلًا إستثناء لبنان، فأصبحت الآن أقل الدول العربية دخلًا، بإستثناء الصومال وموريتانيا واليمن، ويظهر أثر هذا الضعف الاقتصادي في مختلف نواحي الحياة الأخرى : السياسية والاجتماعية والثقافية”.
وحول رؤيته لمستقبل الوطن العربي يُوضح أمين أنه بالتزامن مع نهاية حرب الخليج “رُفع شعار “الشرق أوسطية”، وهو مشروع إسرائيلي أمريكي يهدف إلى القضاء إلى غير رجعة على مشروع القومية العربية، وإحلال مشروع محله، يقوم فيه العرب بدور التابع، سياسيًا واقتصاديًا، للدولة الإسرائيلية”، مشيرًا إلى أن الأجيال الحالية والقادمة قد تكون أفضل حالًا من الأجيال السابقة من الناحية المادية البحتة، لكنهم أكثر شعورًا باليأس والإحباط وكل خطوة تأخذها الدول العربية باتجاه دولة الإحتلال الإسرائيلي تزيد من حدة هذا الشعور باليأس والضياع، و”الفقدان التدريجي للنفس” نتيجة لما تتعرض لهم قيمهم وثقافتهم من اعتداء مستمر، وبما فقدوه من احترام وثقة بهذه القيم.
العالم يتغير
بعيدًا عن الوضع الداخلي لمصر والدول العربية، يشهد العالم تغيرات سريعة ومتلاحقة من أبرزها التطور التكنولوجي الغير مسبوق، وتغير التوازنات السياسية والعسكرية والاقتصادية، مشيرًا إلى أنه طوال القرنين الماضيين كانت هناك دولتين عظمتين تقتسمان العالم فيما بينهما كانجلترا وفرنسا ثم الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، لكن في العقود القادمة يبدو العالم متجه لعلاقات قائمة على الاعتماد المتبادل بين عدة دول كبرى وليس التبعية، مما يجعلنا أمام عالم تحكمه قوى إقليمية متعددة تهمين على مساحات محدودة في نطاقها الجغرافي، فمثلًا في أوروبا هناك ألمانيا وروسيا، وفي آسيا هناك الصين والهند واليابان، وفي أمريكا اللاتينية هناك البرازيل، ويُوضح أمين أنه في ظل هذه الأوضاع قد تفقد مصر مزيد من مكانتها وثقلها العربي المستمد من حجم سكانها ومكانتها الثقافية، ففى العالم الجديد يكتسب الاقتصاد والتكنولوجيا مكانة أكبر من الثقافة.
يُشير أمين إلى أن العالم في سنة 2050 قد يواجه أربع تحديات رئيسية وهي: أولًا كيف نقضي أوقات الفراغ على نحو يذهب بالسأم والوحشة من نفوسنا كما توقع “الاقتصادي الإنجليزي “جون مينارد كينز”، وثانيًا قد تصبح مشكلتنا الأساسية كما أشار الكاتب “ألدوس هكسلي” في كتابه الشهير “عالم جديد رائع” هى استخدام العلم في قهر البشر وسحق آدميتهم ومحو تميزهم، وثالثًا قد تُصبح مشكلتنا هى استخدام التكنولوجيا، وبخاصة وسائل الإعلام في التحكم في أفكار الناس ورغباتهم، لصالح فئة قليلة تستأثر بالحكم، ورابعًا ربما أصبحت مشكلتنا الأساسية هى محاولة الفرار من أسر المجتمع الاستهلاكي، واستعباده لنا القائم على خلق رغبات جديدة باستمرار، لا تعكس حاجات حقيقية للإنسان.
في ظل هذه التحديات ومع وصول الرأسمالية لمستوى من التفاوت الطبقي لا يمكن إحتماله قد تنشأ حركة عالمية قوية ضد كل هذه الدوائر التي تقهر الإنسان، وفي هذا السياق قول أمين “الخلاصة أننا نعيش اليوم في عالم لم يعد القهر يمارس فيه، في داخل حدود الدولة، بل على نطاق العالم بأسره، ولم يعد ميدانه الاقتصاد وحده أو الحصول على ما يسمى ” فائض القيمة”، بل امتد ليشمل عقل الإنسان نفسه وروحه، ولم تعد الأطراف الممارسة للقهر تستمد دعمًا مهما في ممارستها له من الدول القومية، بل أصبح لها وسائلها الخاصة التي تتجاوز حدود الدول. في مثل هذا العالم يُصبح أي مشروع أو حركة تدعو لتحقيق العدالة الاجتماعية عليها مواجهة القهر في صوره الجديدة التي تتجاوز الأشكال الاقتصادية، وإلى الخروج بالمقاومة لخارج نطاق الدولة القومية لتتحد في حركة إنسانية .
The post قراءة في كتاب: العالم عام 2050 لجلال أمين appeared first on البديل.
ليست هناك تعليقات