البديل
في حرفة اختيار الضرورات
لم أحبب يوماً بندقية “الكارل غوستاف” أو كما تعرف محلياً بإسم “الكارلو”؛ فما قراته عنها يجعلني لا أنفر منها فحسب، بل وأهرب كلّما رأيتها. فالبندقية “تعلق” دائماً، تطلق النار بعشوائية والأدهى من ذلك أنّها تتعطّل دون أيِّ سبب منطقي؛ لذلك فهي علمياً ليست سلاحاً عسكرياً بما تحمله الكلمة من معنى، لكن للأسف أنا وغيري اليوم مضطرون وبكل “منطقية” وعزّة نفس أن نمجّد ذلك السلاح القاتل للطرفين، لا لسبب إلا لكونه الوسيلة الوحيدة لقول “لا” في عصر “نعم” المنتشرة بكثافة.
حينما استشهد العزيز باسل الأعرج، ازدادت معرفةُ الناس بالكارلو، البعض لم يكن قد رأى السلاح مسبقاً، خصوصاً من الأجيال الجديدة، أجيال الكاندي كراش وميسي والسامسونج تاب؛ هؤلاء لم يعايشوا سلاحاً حقيقياً بخلاف بندقيتي الكلاشنكوف الروسية (وتحوّلاتها) والأم 16 الأميركية التقليديتين والمنتشرتين بكثافة في مجتمعاتنا العربية (نظراً لحملهما من قبل إما الجيوش العربية أو قواها الأمنية)، لكن حتى باسل لم يكن ليختار الكارلو سلاحاً للنزّال؛ كان الكارلو اختيار الضرورة، إختيار الأسوأ. فألا تقدر إدخال سلاحٍ إلى أرضك، فضلاً عن العجز عن تصنيع سلاحٍ محلي مناسب ليس العجز بعينه، بل هو الموت أيضاً.
كنا مضطرين يومها، ولا زلنا إلى تمجيد هذا السلاح المتخلّف، ونزع صفة الموت، التخلّف، العشوائية، وحتى غير الجدوائية عنه، لسبب أشد أهمية؛ أنه يوجّه رسالة فصل الخطاب: إننا لا نزال هنا، سنبقى مسمّرين في هذه الأرض سنقاتل بأظفارنا وأسناننا؛ نعرف بأن في سلاحنا هذا موتنا، لكننا نختاره؛ دون وجل، دون مقدماتٍ بلاغية. إنه فقط اختيار الضرورة الحتمية. نحن شخوص الأيام العادية، هذه نهاياتنا نكتبها ببراءة: نموت أو ننتصر.
يأتي الكارلو -لمن لايعرف- سلاحاً محلي الصنع، مستنسخاً عن السلاح السويدي (الذي لم يكن شديد النجاح أصلاً) كارل غوستاف والذي صنع في العام 1945 والذي سرعان ما تحوّل إلى سلاحٍ رخيص وقوي فتلقفته المقاومات العربية فأصبح معروفاً عربياً (قبل مرحلة الكارلو) بإسم “بورسعيد” (بنسخته المصرية) و”العقبة” بنسخته الفلسطينية/الأردنية، مع هذا ظل السلاح هذا فخاً قبل أي شيء، صحيحٌ أنه سهل الصنع وزهيد الثمن قليل الكلفة، إلا أنه ينفجر دون أي سبب، يطلق النار دون منطقية وبشكل عشوائي، إلا أنه يظل سلاح الأيام القاتمة. حاول الصهاينة مؤخراً في الضفّة الغربية؛ ضمن حملاتٍ ممهنجة القضاء على مصنّعيه؛ والذين من الممكن أن يكونوا مجرد ورشة “خراطةٍ” مثلاً أو أي شخصٌ لديه عدّة صناعية، كحداد “افرنجي” مثلاً وسواه، بالتالي الأمر يكاد يكون شبه مستحيل. هذه الاستحالة جعلت من الكارلو الاختيار الأكثر فرادة، والذي سيزداد تباعاً بالتأكيد. لكن الأمر ليس هكذا، وليس شعرياً في لحظةٍ ما؛ فأن تدخل معركةً ويكون موتك هو السلاح الأمضى فيها، ليس دائماً هو الخيار الأكثر ذكاءاً، لكن في لحظةٍ ما أنت تفعل ذلك لأنه لاخيارات إلا الأكثر قبحاً. توقد جسدك كي يرى العالم بأسره حياتك.
يجلس الكوكب بهدوء يتفرّج على آلامنا، يتعامل معنا كأرقامٍ لا أكثر، ونحن ليس علينا احتمال، فلا سلاح بأيدينا فحسب، بل وكل شيءٍ آخر أيضاً: ظلم ذوي القربى، اتفاقات أصحاب الشأن والبزات الفخمة، الجيوش العربية المتمسمرة في ثكناتها، والأكثر من هذا: تحوّل قضيتنا إلى شأنٍ خشبي تافه في الحدث اليومي المعاش. ساعتها يحلو الكارلو؛ يحلو الكارلو كثيراً، هو اختيار الضرورة فحسب.
كاتب فلسطيني
The post في حرفة اختيار الضرورات appeared first on البديل.
ليست هناك تعليقات